إسهام المسلمين في الحضارة الإنسانية
لـما حان دور المسلمين لقيادة الحضارة الإنسانية، ترجموا الكتب اليونانية واطلعوا على علوم القدماء. واستطاعوا أن يعرفوا ويضيفوا أمورا كثيرة لـم يكن قد سبقهم إليها اليونان؛ فكان لهم فضل كبير في تقدم علوم: الطب، والرياضيات، والميكانيكا، والجغرافيا، والتاريخ. وقد اتصف بينهم بالتفكير العلمي كثير من الباحثين، أمثال: الرازي، وجابر بن حيان، وابن سينا، وابن الهيثم، والبتاني، والخوارزمي، والبيروني، وابن خلدون، وغيرهم.
وقد كشف تاريخ هذه الحضارة عن الدور الذي قام به العرب والمسلمون في تقدم العلوم وتطورها؛ فاكتسبوا بذلك مكانة لم ينكرها عليهم أحد من علماء الغرب الـمنصفين، أمثال: سارطون، وسيديو، وويلز، ونيكلسون، والبارون ديفوكارا. وقد أثر عن نيكسلون قوله: «إن المكتشفات العلمية التي نحن مدينون بها للرواد العرب، أكثر من أن تحصى؛ فلقد كانوا مشعلا وضاء في القرون الوسطى للظلمة، ليس في أوروبا وحدها، بل في العالم أجمع».
ويقول البارون كاراديفو: «إن الميراث العلمي الذي تركه اليونان، لم يحسن الرومان القيام به. أما العرب المسلمون فقد أتقنوه، وعملوا على تـحسينه وإنمائه حتى سلموه إلى العصور الحديثة». ويذهب سيديو إلى أن العرب والمسلمين هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة.
ومن يتتبع إنجازات الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الطبيعية، سيجد أنهم أول من استخدم المنهج العلمي التجريبي الذي اتخذوه أساسًا للبحث والتفكير العلمي؛ فكان هذا المنهج أعظم هدية قدمتها الحضارة الإسلامية لتاريخ البشرية كلها، بل إنهم كانوا أسبق من الغربيين الـمحدَثين إلى نقد منطق أرسطو العقيم (غير المفيد)، واستطاعوا أن يمـيزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة من جهة، والظواهر الـمادية الـحسِّيَّة من جهة أخرى. وعلموا أن الوسيلة أو الأداة التي تستخدم في هذه الظواهر، يجب أن تختلف حسب طبيعة كل منها.
لـم يمنع تحامل (ظلم) بعض المؤرخين الغربيين وتجاهلهم إنجازات الحضارة الإسلامية، من وجود باحثين غربيين آخرين منصفين، أعلنوا في أمانة علمية أنهم كانوا كلما أوغلوا في دراسة التراث العلمي لهذه الحضارة، ازدادوا إعجابا بها وتقديرا لها. فمنهم من يقرر بأن جابر بن حيان له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق، أو أن البتاني من العشرين فلكيا المشهورين في العالم كله، وأن أبا الريحان البيروني أعظم عقلية في التاريخ، وأن أبا بكر الرازي هو جالينوس العرب. ويقول سيديو عنهم : «إن أفكارهم القيمة وابتكاراتهم النفيسة تشهد بأنهم أساتذة أهل أوروبا في جميع فروع المعرفة»، ويقول كاربنسكى : «إن العلوم الحديثة قد دلت على عظم ديننا للعلماء المسلمين الذين نشروا نور العلم حينما كانت أوروبا غارقةً في ظلمات القرون الوسطى، وأن العرب لم يقتصروا على نقل علوم الإغريق فحسب، بل زادوا عليها، وقاموا بإضافات هامة فيها». وفي سقف مكتبة الكونجرس الأمريكي توجد عبارة منقوشة بماء الذهب كتب فيها : «الينبوع الأول للحضارات جميعا إنما هو مصر الفرعونية، وأما الينبوع الأول للحضارة في العلوم الطبيعية، إنما هو العصر العربي الإسلامي».
وتكمن أهمية علوم الحضارة الإسلامية في تمـيزها عن العلوم القديمة بأنها عالمية وليست محلية؛ لأنها نشأت في موطن يعد مركزا للاتصال بين أفكار العالم المتباعدة، وانتشرتْ في دولة كبرى امتدت من حدود الصين شرقًا إلى حدود فرنسا غربًا في أقل من قرن من الزمان، وذلك بفضل الإسلام الحنيف: دينًا وعقيدةً وقيمًا وخلقًا.